د. آلان قادر :
دراسة الظواهر السياسية والاجتماعية والاقتصادية،بشكل منهجي و علمي وفي سياقها التاريخي، تتيح لنا الفرصة لتقييمها،الخروج ليس باستنتاجات منطقية وصحيحة فحسب،بل الحكم على هذه
أعيدى نشر دراستي بعنوان: دكتاتورية البعث والموت المعنوي التي نشرتها في العام 2008، ولكنها لم تفقد حيوتها ابدا والأحداث المتتالية تثيت صحة وصواب الاستنتاجات الواردة فيها،اي احتضار سلطة البعث التي تلفظ انفاسها الأخيرة وموتها.
د. آلان قادر
يقول الشاعر الفذ بروكين شادو عن الموت:
إنه ظلام دامس،انه ليل داجي
أشعر كيف تستيقظ ذكرياتي
إنني خائف،يراودني ألم شديد
ليس هناك مخرج آخر
أشعر بنفسي أسير الأيام الخوالي
لسنا بصدد تحليل الموت كمسألة فلسفية-ميتافيزيقة التي تستند على نظريتين أساسيتين او تفسيرين عن الموت:1- الموت بصفته انتقال إلى شكل آخر من الوجود2- الموت يعني النهاية والزوال الأبدي،بل الموت المعنوي وهو بدوره يشمل الكائنات الحية والأشياء أيضا.
الموت المعنوي
لم تحظى هذه الظاهرة بالعناية والبحث الكافي من جانب العلماء والمختصين على الرغم من أهميتها ودورها في تبيان واستجلاء خلفيات وأسباب العديد من الظواهر في حياتنا ومن حولنا.وعلى هذا النحو أن الموت المعنوي هو من وجهة نظرنا ليس الموت السريري ولاهو بالموت الفيزيولوجي،بل مرحلة سابقة على الموت الجسدي،عندما يكون الجسد مجرد كتلة من اللحم والعظام موجود ويتحرك هنا وهناك ولكن الشعور والانفعالات والمؤثرات والانطباعات والأحاسيس قد غادرته أو فقدت وظيفتها ويمكن تشبيهه بالروبوت.
وبهدف شرح فكرة الموت المعنوي،لابد من القول أن الظواهر أوالأشياء تموت معنويا عندما تفقد قيمتها،معناها ودورها او وظيفتها في خدمة المجتمع والانسانية،فالجديد يحل محل القديم لأن هذا الأخير لم يعد صالحا ولا يستطيع القيام بدوره على أكمل وجه. فأدوات الفلاحة القديمة ما تزال تستخدم في مناطق معينة من العالم ولكنها لاتستطيع منافسة التراكتورات الحديثة،لذا نقول ان تلك الأدوات فقدت قيمتها ولا تستطيع تلبية احتياجات الأنسان المعاصر،وأجهزة الكومبيوتر الحديثة مع برامجها المتطورة جدا حلت محل الأجهزة القديمة التي كانت تتميز بالبطء وطاقة تخزينية محدودة، وهكذا دواليك بالنسبة للهاتف المحمول والسيارات والكاميرات وأجهزة الفيديو وال DVD وإلخ. وأكثر الأمثلة توضيحا وتأكيدا على هذه الظاهرة هي: إذا كنت تعيش في بيت متواضع وبسيط من الطين مع عفش منزلي عادي وأنت مقتنع وراض بذلك ولكن إذا استيقظت يوما ما على أصوات البلدوزرات وأجهزة البناء الحديثة وبالقرب من منزلك تماما وبعد مضي فترة أرتفع منزل شاهق أو فيللا عصرية مع حديقة جميلة وحوض سباحة وأثاث فخم فبدون شك سوف تقارن بيتك الطيني مع تلك الفيللا وعندها يصبح منزلك أدنى قيمة ويموت في نظرك من الناحية المعنوية.ولكن عندما يتعلق الأمر بالسلطة السياسية يصبح ذلك أكثر خطورة لأن مجال سيطرتها وتأثيرها يتعلق بمصير الملايين من البشر، بالمجتمع ككيان ومؤسسات.فسلطة البعث الديكتاتورية والإرهابية في دمشق لم تعد تستطيع أداء وظيفتها على الأصعدة السياسية والإقتصادية والإجتماعية،لأنها فشلت تماما في تأمين الحريات الديمقراطية وانتقال السلطة بواسطة انتخابات حرة ونزيه واستقلال القضاء وتأمين لقمة العيش للإنسان السوري والإعتراف بالحقوق القومية والأنسانية للشعب الكردي وإزالة المشارع العنصرية والشوفينية مثل الحزام العربي والإحصاء والقوانين الأستثنائية وحالات الطوارئ وغيرها.فعندما تفقد السلطة السياسية مبررات وجودها وتتحول إلى كابوس على صدور الناس والعباد وتمارس العنف وتأكل أبناءها وتستند فقط على أجهزة القمع والإستخبارات لكم الأفواه وتصدير الأزمات الداخلية إلى دول الجوار وممارسة الإرهاب وقتل الكتاب والصحفيين ولا تعترف بالرأي الأخر فهي دون شك قد ماتت معنويا وعليها مغادرة مسرح التاريخ،وإن لم تفعل بإرادتها فسوف يجرفها الطوفان والعاصفة.
وبناء على ذلك يمكن القول أن كل بحث إذا توخى الدقة والموضوعية في دراسته الظواهر[ Phenomenon] السياسية والإقتصادية والإجتماعية،يجب أن يتم في إطار عاملي المكان والزمان.والبعث كظاهرة سياسية ظهر على المسرح السياسي بعد الحرب العالمية الثانية في سوريا والعراق،حيث شهدت تلك الحقبة نهوض شامل لحركات التحرر الوطني في دول العالم الثالث ومن جراء سقوط النازية والفاشية وانتشار أفكار الإشتراكية والحرية والديمقراطية وحقوق الانسان.ومن العوامل التي ساعدت على صعود البعث كظاهرة سياسية-أيديولوجية هي:
1- العامل التاريخي
ورثت دمشق بصفتها عاصمة بني أمية إرثا ثقيلا من العنصرية والتسلط والإرهاب وممارسة سياسة الغدروالإغتيال السياسي،فضلا عن إقصاء وتهميش القوميات الأخرى وإبادتها،حيث ماتزال سياسة تعريب الدواوين ماثلة للأذهان.والبعث يمارس نفس السياسة العنصرية البغيضة للأمويين إزاء الشعب الكردي في غرب كوردستان.فبلاد الشام كانت مجرد مزرعة لبني أمية مثلما تعد سوريا في وقتنا الحاضر مزرعة مملوكة للعائلة الحاكمة،والشعوب السورية مجرد أجراء أو عاملين لديهم.
2-العامل الجعرافي.
يعد الشرق كمفهوم أثني-جغرافي ولأسباب غير خافية علينا أرضية خصبة لظهور وانتشار أفكار التعصب الديني[ باستثناء كردستان] والقومي والتطرف السياسي.لقد أدى المغالاة في دور القومية ورفعها إلى درجة القداسة من قبل فئات وشرائح معينة وبهدف تقوية هيمنتها على مقدرات البلاد إلى حروب وكوارث عديدة ما تزال شعوبنا تدفع فواتيرها وأحدثت شرخا بين مكوناتها.
3-العامل الإيديولوجي
شهد العالم بعد الحرب الكونية الثانية وتحول حلفاء الأمس إلى قطبين متناقضين وولوج البشرية عهد الحرب الباردة، اختفاء نظريات وأيديولوجيات قديمة وفي الوقت نفسه بعث أفكار النازية الألمانية ونفخ روح جديدة فيها، تتكلم بلغة الضاد ولكن باسم البعث.ليست هناك في العالم أيديولوجية تتميز بالتناقض الحاد والخلط غير المتجانس كنظرية حزب البعث بشقيه السوري والعراقي ونقصد بذلك:1- نظرية القومية العربية وبنسختها الأموية- العدوانية والعنصرية الفاضحة2- الإشتراكية أو بالأصح قشور الاشتراكية الستالينية3- النازية مع فكرة أومؤسسة الزعيم أو القائد [ الضرورة،الأوحد،الأمين،إلى الأبد، بالروح بالدم، الذي لايخطئ وإلخ...]
فالزعماء الحقيقيون هم الذين يصنعون التاريخ ويقودون شعوبهم إلى ساحات النصر ليس في ميادين القتال فقط ،بل البناء وتأمين حياة إنسانية حرة،كريمة ولائقة، مع مزيد من الديمقراطية والمؤسسات القانونية الفاعلة.وبكل أسف لقد سجل التاريخ أن زعامات البعث سواء في سورية أو العراق،تميزت ليس بالدكتاتورية والعنجهية والنرجسية فحسب،بل بزعرنة السلطة السياسية وسوء استخدامها إذا جاز التعبير.وكم كان مؤلفا كتاب حرب صدام جون بولوخ وهارفي موريس الصادر في العام 1991 على حق عندما كتبا عن صدام واسلوب تعامله مع السلطة السياسية:" لقد بدأ صدام حياته السياسية كطاغية القرية[ أي زعران القرية] وظل هكذا عندما أصبح قائدا للدولة أيضا".ان سلوك وممارسات طاغية دمشق سواء في غربي كردستان او لبنان أو العراق أو في المناطق الأخرى من سورية لايختلف البتة عن سلوك صدام،والأنكى من ذلك انه هدد بإشعال المنطقة بالحرائق من بحر قزوين إلى المتوسط!.
وتأسيسا على ماقيل أعلاه ان ديكتاتورية البعث لاتستطيع مواكبة التطورات الحديثة وبناء مجتمع ديمقراطي حقيقي قائم فعلا على مبدأ سيادة الشعب والمؤسسات الدستورية وهو بحكم تناقضاته الداخلية والبنيوية لايستطيع التأقلم مع جوهر العصر والتغييرات الجذرية الجارية في كافة المجالات، لآنه كما قال الشاعر خائف جدا من مغادرة مسرح التاريخ وهو أسير الماضي وليس أمامه أي مخرج آخر سوى اللجوء إلى حق القبضة واستخدام العنف العاري لإثبات وجوده.فإذا استتبت الأوضاع في العراق ولبنان ومارست المؤسسات المنتخبة ديمقراطيا وظيفتها وأعطت ثمارها عمليا،عندئذ سوف يبدو الموت المعنوي للنظام الديكتاتوري في دمشق بصورة جلية أكثر ويقترب رأسه من المقصلة بوتيرة أسرع.ومن هنا ارسال الإرهابيين إلى العراق ومحاربة الحركة الديمقراطية الكردية في غرب وجنوب كردستان وإثارة القلاقل والصراعات في لبنان لإغتيال تجربته الديمقراطية،ولكن هيهات أن الطغاة والقتلة يستطيعون وقف مسيرة الشعوب نحو الحرية وتطورها الحضاري،من أجل غد مشرق وواعد.
*د. آلان قادر حقوقي ،متخصص في القانون الدولي العام، رئيس الجمعية الكوردية للدفاع عن حقوق الانسان في النمسا
لينز 2008
تم النشر في 00,12 03|06|2012