كاردوخ ميردرويش : المعاني الروحية الراقية للملاك الزرادشتي (فروهر)


كاردوخ ميردرويش :

تاسست الديانة الزرادشتية على الألوهية المطلقة (لاهورامزدا) الإله الاوحد للعالم، ويتوضح هذا الامر عندما نقرا مناجاة النبي الكوردي زرادشت في افستا قسم ال( ياسنا)حيث يناجي الإله (أهور مزدا) إني لأدرك أنك أنت وحدك الإله وأنك الأوحد الأحد، وإني أوقن تمام اليقين أنك أنت الإله الأوحد. اشتد يقيني غداة انعطاف الفكر مني على نفسي.

يسأله: من أنت، ولفكري جاوبت نفسي؛ أنا؟ إني زرادشت، وأنا الكراهية القصوى للرذيلة والكذب، وللعدل والعدالة أنا نصير..من هذا أتفكّر الطيبة التي تحوم في خاطري، ومن هذا الانعطاف الطبيعي في نفسي نحو الخير، ومن هذا الميل الفطري في داخلي إلى محق الظلم وإحقاق الحق أعرفك.

من هذه الانفعالات النفسية والميول الفكرية التي تؤلّف كينونتي وتكوّن كياني ينبجس في قلبي ينبوع الإيمان بأنك أنت وحدك أهورا مزدا، الإله وأنك الأوحد الأقدس الخيّر الحق.

عندما نقرا هذه المناجاة الروحية الرائعة بين زرادشت واهورامزدا سنفهم المعاني الفلسفية العميقة التي تتجلى في صورة (الفروهر) الملاك الزرادشتي, التي تحوي على اكثر الاجزاء قيمة في وجود الانسان,حيث انها تشكل ذرة من الكون اللامتناهي للاله الواحد (اهورامزدا),وهنا سنقوم بشرح اجزاء الفروهر في هذه الصورة.

يرمز الفروهر الى الروح الموجودة منذ الازل، وستستمر في الوجود بعد الموت . ويذكر الفروهر الناس بسبب وجودهم في الحياة على الارض ، والعيش بطريقة تجعل الروح تتسامى وتتحد بالاله الحكيم (اهور مزدا) وهذه الحالة تدعى في الافستا فرشته كرتي ، ويمكن ترجمتها الى السمو او الاتحاد مع الذات الالهية كما في المصطلح الصوفي .



1.يحمل الفروهر وجه انسان و على راسه التاج .

2.جناحان لهما ثلاث مجموعات من الريش.

3.ترمز كل مجموعة من الريش الى الخير (الفكر الطيب ، الكلمة الطيبة ، و العمل الطيب ).

4. الملاك يمسك بيده اليسرى حلقة العهد على شكل خاتم يمثل الوفاء.

و الاخلاص والالتزام بالعهد والميثاق،الذي هو أساس الفلسفة الزرادشتية.

5.اليد اليمنى باتجاه الاعلى نحو الاله الواحد اهورامزدا تدل على العمل من أجل التطور و الازدهار والنمو والرقي.

6.عروتان(سلسلتان) على جانبي الفروهر العروة الاولى تتجه نحو وجه الفروهر والاخرى نحو ظهره ، وهما ترمزان الى التوجه نحو الخير والابتعاد عن الشر.

7.الجزء الاسفل من الفروهر يحتوي على ثلاثة رموز تدل على الشر و هي (الفكر السيء والكلمة السيئة ، والعمل السيء) ، التي تسبب البؤس والخيبة والشقاء للبشر .

8. الدائرة في الوسط ترمز الى لانهائية الروح،حيث ان الروح ليست لها بداية ولا نهاية.

وتظهر رمزية هذه الدائرة وقدسيتها ايضا من خلال (السنجق الايزدي) فالدائرة متأيتة من اسلافهم الكورد القدماء على شكل طوق الشمس (ميثراـ مهر).

يسمي الكورد الايزديين حالات التعميد (موركرن ــ مهركرن)و يقدسون الشمس ويعتبرون ان نورها مستمد من نور الله , والله نور الانوار .وان اله الشمس(ميثر ـ مهر) من احدى صفاتها المحبة والعدل وذلك من خلال توزيع اشعتها على جميع الكائنات دون تمييز ,و سموها بـ (المحبة) واستعار القدماء الاسم (مهر) ليطلقوها على أسمى شئ في الوجود الا وهو (المحبة ـ الاقتران ـ الزواج)

يؤكد العالم الشهير (دياكونوف) ان التسمية (ميثرا) كوردية ميدية الاصل وليست فارسية بأي شكل من الاشكال ,و وجد الدين المزدي في ايران قبل زرادشت, وقد خرجت عبادة ميثرا مختلفة عن المزدية وهي العبادة التي تعتبر ميثرا إله الشمس ورب المواثيق,و كانت عبادة الاله (ميثرا) منتشرة بين الآريين ومنهم الكاشيون والميتانيون والحيثيون, وانتشرت في العالم الروماني وفي موانيء البحر المتوسط وفي شمال افريقيا وآسيا الصغرى واطراف البحر الاسود,وانتشرت ايضا, في أعالي الفرات و الحضر خاصة بعد سقوط نينوى ( 612) ق.م,على يد الميديين بقيادة الملك الميدي (كيخسرو).

ورد أقدم ذكر لهذا الاله في ( الفيدا الهندية ) ( 1400) ق.م ,كما ورد ذكره في اقدم كتابة على الواح طينية تعود الى (1200) ق.م في (كبادوكيا) في منطقة ( بوغازكوي) في بشمال كوردستان, وذلك من خلال وثيقة عهد بين ( الحيثيين والميتانيين ).

اتخذ الميديون و الاخمينيون و الساسانيون الزرادشتيون هذه الحلقة شعاراً ورمزاً للعهود والمواثيق حيث نشاهد في ارجاء عديدة من ايران وفي منحوتات صخرية ملوك يسلمون الطوق لولي عهدهم . كما كان الكاهن ( الموبد ) الزرادشتي وعند تتويج الملك وتنصيبه يقوم بمراسيم دينية معينة يتم خلالها تسليم العاهل الجديد (حلقة العهد والميثاق). ادخل الزرادشتيون حلقة العهد ورمز الشمس ميثرا ضمن شعارهم الديني الشهير (الفروهر) حيث نلاحظ ان الملاك يمسك بيده اليسرى ( حلقة ) ترمز الى العهد والوفاء والميثاق . واصبح التطويق في عهد امبراطورية الكورد الساسانيين من علامات التكريم و يرمز الى دخول الشخص الذي تتم له هذه العملية في طاعة الملك او الامير , واخذها منهم الشعوب المجاورة ,ومنهم العرب حيث كانت ترمز بخاتم الخلافة والملك بنفس المفهوم .

يؤكد الدكتور مؤيد عبد الستار بان شعار الفروهر من أصل سومري ، ويعود لبلاد ايلام ، موطن الكورد الفيليين كوردستان ، وانتشر بعدها في بلدان وحضارات مختلفة ، منها الحضارة(الخاتية) الحثية في شمال كوردستان منقوشا مع الملك الحيثي حوالي 1400 قبل الميلاد ، وكذلك في غرب كوردستان على الاختام الميتانية حوالي 1450 قبل الميلاد,و يظهر احيانا كطائر فقط دون وجه بشري ، واحيانا اخرى يحمل وجه انسان,حيث استخدمه المصريين بجسم طائر ورأس انسان ، و تبنى الاشوريون الدائرة مع الجناحين لحماية الملك والناس . ان هذا الرمز دون الوجه البشري ، يمثل الاله الشمس – شمش - ولكنه مع الوجه البشري يصبح الرمز الوطني الاشوري، الاله اشور ، ويظهر على عدة اختام ,و اتخذت امريكا ايضا هذا النسر شعارا لها.

عندما نتامل في صورة الفروهر الزرادشتي,فانه تتجلى امامنا ابهى صورة روحانية فكرية للمعنى الحقيقي في فلسفة الوجود و قضية الكون المعقدة وايجاد الحلول الراقية والمطمئنة للنفس البشرية من خلال الاجابة على كافة التساؤلات الصعبة التي تخطر ببال الباحث عن الحقيقة واسرار الكون العجيبة التي لا يمكن اكتشافها الا عن طريق الاله الاوحد (اهورامزدا)التي تؤدي بالانسان الى السعادة الابدية وانتصار الخير على الشر في نهاية المطاف.

فينصحنا النبي زرادشت حيث يقول:

بأذنيك استمع إلى هذه الحقيقة وبعقلك افهمها وبقلبك يجب أن تحبها انهض ايها النائم ايها الغافل ايها الكسول وانشر كلمات الاله في كل مكان نمت فيه أو صحوت فيه أو اكلت أو شربت انهض وقل كلمة الاله ولاتكن اخرس في الحق ولاتكن متهاونا في الخير.. هذه نصيحتي.

(إني أتصورك ـ أيها المعطي الأكبر مزدا ـ جميلاً حينما أشاهد أنك القوة العليا ذات الأثر الفعال في تطوير الحياة وحينما أرى أنك تكافئ الناس على الأعمال والأقوال. لقد كتبت الشر (عقاباً) على الشر وجعلت السعادة جزاءً وفاقاً لمن يعمل الخير، وذلك بفضلك العظيم الذي يظهر أثره، حينما تتبدل الخليقة التبدل النهائي).



كاردوخ ميردرويش

27.8.2012

المصادر

*الدكتور مؤيد عبد الستار.. الاخلاص والوفاء اساس الفلسفة الزرادشتية

*دياكونوف ـ ميديا ـ ترجمة برهان قانع ص 514 ونقل ستيك ويكاندربان الاخمينيون عرفوا (ميثرا) باسم . ميشا) والعيلاميون باسم (ميشيشا) . وايضا ص 513 دياكونوف نقلاً عن (ستيك ويكاندر)

*كريستفن ـ ايران في العهد الساساني ترجمة يحيى الخشاب ص21

*سامي سعيد الاحمد ورضا جواد الهاشمي ـ تاريخ الشرق الادنى القديم , ايران والاناضول ص78 وايضا كتاب اليزيدية ص 70

*هاشم رقي ـ كاه شماره جشتهاي ايران باستان ص276.293

*فيصل السامر ـ الدولة الحمدانية في الموصل وحلب ص240        
   

أخبـــــــار الوطـــــن

بيـــانــــات و تــقــــاريـــــر