د. رضوان باديني : قراءة في أطلس الجغرافيا البشرية لشمال سوريا: التنوع القومي للسكان


د. رضوان باديني :

بدءاً من شمال اللاذقية ومروراً بإدلب وحلب والرقة والحسكة. ويكشف عن التغييرات التي طرأت على المنطقة من جراء سياسات التعريب للمواقع الجغرافية toponymy (دراسة علمية لأسماء الأماكن) في

  جميع المراحل وبالأخص التي أعقبت الإستقلال. ويقارن بين الأسماء القديمة للمواقع وتلك الجديدة، المعربة، معتمداً على الخرائط والوثائق القديمة التي تعود لعهد الإنتداب الفرنسي.ومايستحق منا إهتماما خاصاهو تمحيصه للهوية القومية على أساس البحث عن الأصول اللغوية القديمة للأسماء، وذلك بمنطق، حسب تعبيره: "أسماء البلدات تحمل تعبيراً تدل عن هوية سكانها، فكما يبدو غير منطقياً، كحالة عامة، أن تجد قرية سكانها من القومية العربية تحمل اسماً كردياً، نتوقع أن تكون عملية إستبدال الأسماء القديمة لقرى بسكانها الأكراد بالأسماء العربية، تعبيراً واضحاً لخطة مدروسة  تبغي طمس معالم الديمغرافية الأصيلة للمنطقة".وحينما تتكرر العملية في مراحل مختلفة وبنفس المنطق والوتيرة فاننا نحصل على صورة أدق لسياسة واضحة المعالم وبعيدة المنال لتحقيق تغييرات في العمق، للجغرافيا البشرية التاريخية للمنطقة.
أن ما يزيد قناعتنا بالإستنتاجات التي أقرها المؤلف، معلوماتنا عن نشاطه المتمييز في البحث والتنقيب العلمي في جغرافية المنطقة برمتها ومكوثه ردحاً من الزمن بين سكانها وتعرفه عن قرب على هويتهم القومية.وهذه الدراسة هي جزء من دراسة أوسع تشمل النسيج الإجتماعي لمختلف دول الشرق الأوسط (سوريا، لبنان، إسرائيل، فلسطين، الأردن.) لكن "الشمال السوري" كان موضوع دراسته الخاصة في هذا البحث الذي حمل عنوان  (أطلس "الجغرافيا البشرية لشمال سوريا: التنوع القومي للسكان") والذي صدر عن المعهد الفرنسي في المشرق (المعهد الفرنسي لمنطقة الشرق الأوسط).

يتسائل المؤلف في البداية، ما السر في الإنتشار الكثيف للأسماء الكردية تاريخياً في شمال سوريا بأكملها، بدءا من جبل الأكراد في اللاذقية في الشمال الغربي من سورية إلى آخر نقطة شمال شرق الحدود السورية مع العراق؟ ؟ وهل لهذه الظاهرة معناً آخرسوى التأكد على الوجود الموغل في القدم  للعنصر الكردي في هذه البقعة الجغرافية؟
بأي حال من الأحوال،هذا الواقع يبرز حقيقة أخرى للعيان، تتوضح معالمها  في إفتراضات الباحث: فيما يتعلق بمحافظة اللاذقية وأسماء القرى الكردية قرابة (خمسين قرية) وإعتراف غالبية سكانها باصولهم الكردية، هي حقيقة متأكد منها تاريخياً، ومن مصادر عديدة. ثم أن قرب هذه المواقع من قلعة صلاح الدين الأيوبي الكردي، دلالة بمضمون تأكيدي لاجدال فيها ولا تخلق اي خلاف بالنسبة لجميع المتخصصين المعروفين.  وهذه الدلالة تجزم، على الأقل، الحد التاريخي لبداية ظهورهم هنا. ومن هنا ايضاً نحصل على "التفسيرالمفتاح" لطبيعة التعايش التاريخي السلمي بين العرب والأكراد في هذه المنطقة والإندماج أو "الصهر الطبيعي" للسكان في البوتقة "العربية-الإسلامية"  مع احتفاظ وجدانهم الجمعي باصولهم ومنبتهم االثقافي . وهذا التفسير يسهل أيضا فهمنا للمصدرالروحي للإتحاد "الطوعي" وطبيعة العلاقات المشتركة.
لكن الدلائل التاريخية التي تشير إلى "الوئام" الناشئ بين العرب والأكراد منذ إنتهاء الفتوحات الإسلامية، التي كانت كغيرها من البلدان، مرفقة في البداية بالدم والعنف، لم تكن حالة بنتائج وحيدة "منتهية وثابتة" على المدى البعيد وعلى مر التاريخ المشترك. ولذلك يمكننا إعتبار "التعريب المبكر"للمنطقة الكردية المتاخمة جغرافياً للمنطقة العربية حقيقة مستمرة بوتائر مختلفة إلى يومنا هذا. وهو يختلف بدلالاته التأثيرية عن تلك المرفقة بإنتشارالإسلام في المناطق غيرالعربية والبعيدة جغرافياً. (فالتأثير أقوى على الأقرب جغرافياً).ومن ذلك أن تبني شعوب كثيرة بعيدة جغرافياً للإسلام لم تنتج نفس النتائج التأثيرية لجهة  "التعريب". فرغم تفضيل كل المسلمين للغة القرآن ولغة اهل الجنة ولغة العبادة..لكن الإختلاط المباشرللعنصر العربي مع العناصر الداخلة في الإسلام (العنصر الكردي في مثالنا) هو الذي ميز نوعية التكييف والتأقلم مع سمات الحضارة الإسلامية بمزاياها العربية، بين الشعوب القريبة جغرافياً.
طبعاً ان مؤديات هذا التفسير ليست بفهم واحد بالنسبة للعرب والأكراد اليوم. فالتعايش والإختلاط والمصاهرة بين الكرد والعرب عملية شبه متواصلة ولم تتوقف منذ فجر الإسلام، لكن مسائل الخلافات القومية الناشئة، تعود لزمن "اليقظة القومية" وتشكيل الكيانات على الأساس القومي، أي حينما تحولت هذه "العملية الطبيعية" كوسيلة لفرض ايديولوجية قومية عربية "متعالية"وبإمتيازات لبعض الحكام، الذين لم يأخذوا من الإسلام إلا هذه الميزة"ذات الحدين" والدالة في نفس الوقت على التضافر الحضاري لقوميات وشعوب مختلفة تحت راية الإسلام. حتى أصبحت سياسة صهر الأكراد موغلة في الإستبداد ومرفقة بوسائل الإكراه الشديدة المقت.(في عراق صدام كان يدفع لكل عربي يتزوج من كردية مكافأة مالية هامة).

أن كشف وتوضيح السياسات التمييزية بحق الأكراد في الزمن المعاصر تفيد في كشف الصورة الذهنية لدى القوميين العرب وعلى رأسهم البعثيين، الذين خلقوا شرخاً عميقاً  في العلاقات التاريخية المزدهرة بين الشعبين وأحلوا محلها القطيعة والجفاء.
أن تركيزالمؤلف وإهتمامه بشكل رئيسي على الأسماء الغيرعربية الموروثة عبر القرون في قراءة الواقع القومي والإثني لهذه المنطقة الجغرافية الكبيرة، يبين حقيقة أن بعض السكان الأصليين لم يحتفظوا من كل وشائج هويتهم القومية إلا بالأسماء. ويؤكد كذلك بانها ليست باكملها من أصول كردية، بل غالباً مختلطة كردية أوتركية أو تركمانية او سريانية، وهو النسيج الأصلي لسكان هذه المنطقة قبل الإسلام.
أن الزيارات العديدة للمؤلف لهذه المناطق بالذات وتماسه المباشر مع السكان وإمتلاكه لمعارف وعلاقات متعددة منذ فترة طويلة، سمحت له بقراءة دقيقة يستكشف فيها علائم وسمات هذه المنطقة العرقية والطائفية. ثم إستخدامه لمصادر تاريخية تعود لأزمانٍ مختلفة للإستدلال على اسماء المواقع الجغرافية سمح له بإكتشاف الحقيقة التي عمدت الحكومات المتتابعة، إنكارها أو إخفاؤها، بوعي وعن سبق إصرار، وذلك بإطلاء الصبغة القومية العربية على تسمياتها. وهو ما مكنه من التأكيد بأن الدولة السورية تبنت سياسة التعريب في خطط  ودراسات منتظمة منذ الإستقلال عام 1946.
في لقاء خاص لنا مع المؤلف، (مسجل على شريط فيديو)، أجريناه خصيصاً لإنتاج فلمٍ وثائقي عن هذا الموضوع ،(لم ينشر بعد) أكد المؤلف بصريح العبارة بانه يحتفظ بخرائط قديمة قيمة وفي غاية الأهمية، تعود أغلبها لفترة الإنتداب الفرنسي على سوريا (1920-1946) وكذلك مصادر ووثائق متنوعة أخرى نادرة ومتعددة الجوانب لنفس الفترة. اي الحقائق التي سمحت للباحث بإجراء إستنتاجات واقعية ومؤكد من صحتها كأسماء القرى والمناطق والتلال التي تمتد جذورها القديمة إلى حقبات زمنية سحيقة في القدم. وفي منهجية علمية وموضوعية يتأكد فابريس بالانش من أسماء المواقع الجغرافية التي أستبدلت بأسماء عربية  بين 1943 و 1994 لينتهي إلى الفترة الأكثر خطراً لنهج سياسة التعريب المقيتة على يد مدبري إنقلاب 8 آذار 1963.وهو ما لم تستطع أن تخفيه الحكومات السورية المتعاقبة، وهو ما أدى لطمس معالم المنطقة القومي الحقيقي.. هذه السياسة المركزية المنفذة بأدوات ووسائل الدولة كانت تبغي بوضوح القضاء على المطالب القومية الكردية، ومنعهم  من الحصول على أي حقوق خاصة في الدولة التي عربت مؤسساتها الأرض والبشر.

لكن على الرغم من فظاظة وخشونة هذا العمل على الارض والذي أصبح كلغم سياسي مدفون في واقع العلاقات الشائكة بين المكونين الأساسيين في المنطقة فإن أسماء الأماكن في ذاكرة السكان لاتختلف من جيل الى جيل وهي متواترة ومتواصلة الإستخدام، وأن تغيرت وتغيبت عن النص الرسمي، فأسمائها ما قبل سقوط الامبراطورية العثمانية غير ممحاة من الذاكرة الحية للمسنين.
ويؤكد المؤلف على ان فرض أسماء عربية من قبل الدولة، لم يحظى برضاء السكان المحليين الذين غالبا ما عارضوا ورفضوا هذه السياسة. وما تزال الاسماء القديمة للقرى تستخدم من قبل الأهالي و لا يتخذها أحد كمرجعية  إلا الدولة نفسها. والسكان أحيانا ليسوا حتى على علم بالإسماء الجديدة، لأن ذلك لا يظهر إلاعلى الخرائط الطبوغرافية والسجلات التي ليس للسكان علاقة مباشرة بها أو ليسوا قادرين للوصول اليها.
وتبين نتائج التحليلات التي يجريها المؤلف، بان"الميزة الكردية"،أو أحياناً التركية في شمال سوريا تفصل المناطق بوضوح من بعضها البعض وتؤكد على الهوية والطبيعة الإثنية للأسماء المنتشرة، وهي متشابكة ومتداخلة لدرجة كبيرة. لكن المناطق التي لا تزال ذات أغلبية كردية مطلقة، واضحة ومستمرة بالوجود ومحتفظة بمحتواها الأثني، ويؤشر لوجودها على الأطلس باللون الأحمر، وتحمل أسمائها الجديدة أمثلة حقيقية مذهلة لا خلاف عليها بين المطلعين الأجانب على تعرضها للتعريب الممنهج. لكن الصبغة القومية لهذه المناطق تتغيير كلما تحركنا صوب الجنوب إنطلاقاً من الحدود التركية حتى نحصل على خليط فسيفسائي للاعراق، بدءاً من جنوب حلب والحسكة. حيث تظهر على أثرها بوضوح الأغلبية العربية في أسماء المستوطنات والمناطق. أما المنطقة المحصورة بينهما (وادي الفرات والرقة) فهما منطقتين مختلطتين، إعتماداً على ما تفسره لنا الأسماء فقط. 
ونستنتج من ذلك، كماهوموضح في الخارطة، بأن تأثيرسياسة التعريب كانت قوية جدا في حلب وأتت بثمارها لصالح إمحاء الطابع الكردي-التركي، حيث تضررت بشدة مناطق من شمال وجنوب المحافظة. وقد ذابت أسماء هامة من المستوطنات التي تحمل أسماء كردية. أما محافظة الرقة، فإنها لم تتأثر بنفس النسبة بسياسة التعريب نظرا لانخفاض نسبة الاسماء العربية على أراضيها بالأصل. و يمكننا ملاحظة مناطق التعريب بنسبة أكبر الى الغرب من محافظة حلب التي تشمل عملياً الغالبية العظمى من الحواضر في محافظة إدلب.

وفي نهاية الدراسة يستنتج المؤلف بانه رغم سياسة التعريب الممنهجة والمتواترة إلا ان كثافة السكان الأكراد السوريين في "منقارالبط" (باللون الأحمرعلى الخريطة) من محافظة الحسكة، لم يفقد طابعه القومي الواضح وهي من المناطق التي تشكل إستمرارية طبيعية لكثافة السكان الأكراد مع مناطق الحدود للدول المجاورة.
أن التعاطي الشاذ للدولة ومؤسساتها المؤدلجة طوال العقود الخمسة الأخيرة من تاريخ سوريا؛ والممارسة الهادفة للقضاء على الثقافات الغير عربية وإلغاء التنوع القومي  كوسيلة للإزدهار الثقافي.. غيرت كثيراً من الوجه الاجتماعي الإثني لمجموعة محافظات الشمال السوري، على إمتداد الحدود مع تركيا و شوهت معالم المنطقة الحضارية، والتي ما تزال أغلب شواهدها التاريخية مدفونة تحت الأرض بعد. وما التغيير الشكلي للمسميات وبطريقة مصطنعة لصالح قومية ضد أخرى إلا تعقيداً لن يزيل بسهولة بمرورالتاريخ. أن ذاكرة الشعوب و إرادتهم كفيلة لإزالة هذا التزوير. والشرق الأوسط القديم، الذي أعطى للبشرية أمثلة على الأخاء والتسامح وتضافر الحضارات الإنسانية لن يقبل بهذا التقزيم لمعالم حضارته في المستقبل. بهذا المعنى، يمكننا اعتبار"أطلس الجغرافية البشرية لشمال سوريا: التنوع القومي للسكان" مصدراًموثوقاً جديراً بالإهتمام ولا غنى عنه لأي باحث موضوعي وجاد يهدف الكشف عن الهوية القومية لهذه الرقعة الجغرافية الهامة.






أخبـــــــار الوطـــــن

بيـــانــــات و تــقــــاريـــــر