أحمد خيري :
أنا ملاذ .. يدللني أبي ويقول لي " ملاذ كرد " نسبة لمعركة جرت في التاريخ " ...
شاب كردي بامتياز ..
نصف قروي ونصف متمدن .. فأنا لا أنتمي لأي شيء .. لا المدينة تأويني ولا الريف يعترف بي .. ففي المدينة أشعر بأني قروي وفي القرية أشعر أني مدني .. وفي النهاية أنا ضائع بين الحالتين ..
مهزوز الشخصية .. أمشي بارتباك وخوف ، لا أعرف من أي شيء أخاف ، ولكنه شعور كامن في داخلي .. شعور زرعوه فيّ منذ آلاف السنين..
أخاف من الله .. من السلطة .. من المعلم ومن رئيسي المباشر .. أمامهم أنا لا شيء ..
ثقافتي رغم أنها لا تنضب فأنا لا استطيع أن أقنع حتى زوجتي وأولادي بوجهة نظري ،، والآخر دائماً هو من يفرض علي رأيه .. الآخر رغم ضآلة ثقافته وقلة معرفته فهو قادر على فرض رأيه ..
ثقتي بنفسي معدومة تقريباً .. في أي مجلس أنا فيه أشعر بضآلتي وبأنني أقل قدراً وقيمة من أي واحد في المجلس .. اجتماعياً اشعر بالخجل من كل شيء حتى المرأة التي هي كل شيء بالنسبة لي ( الأم والأخت والصديقة ولها كل الحقوق ) رغم ذلك أشعر بأنني ضعيف تجاهها وبأنني أنا المسؤول عن مآسيها .. الغربة هي انتمائي ، فلا وطن لي وكل الأماكن هي غريبة علي .. حتى بيتي وسكني وسكن أهلي.. والحياة هي الغربة الأكبر بالنسبة لي ..
لم أستطع أن أفهم أن الحياة جميلة وهي تستحق أن تعاش .. وإن فهمت ذلك وأدركته عجزت عن التعامل معها ...
أنا ملاذ الكردي .. لا هوية لي ولا انتماء ولا وطن ...
منذ آلاف السنين والأرض التي أعيش فوقها والمرسومة على الخرائط، بعض الخرائط وليس كلها .. لأن الكثيرين محو اسمي من خرائطهم .. فمنذ آلاف السنين، وأنا لم استطع أن أجمع هذا الشتات وتلك الأجزاء المقسمة مني في كلمة واحدة ..
والكل منذ ذلك الزمن .. زمن تقسيمي صار يستخدمني لأجل مصالحه وغاياته .. ورغم كل ما مرَ فوق رأسي لم أتعلم أن أفعل شيئاً من أجل نفسي ومصلحتي ..
كل الحضارات التي مرت على هذه المنطقة والتي بنت لنفسها مجداً وعزة، أنا وعلى أكتافي بنت ذلك العز والمد .. والأمم التي أنشأت لنفسها إمبراطوريات عظيمة، أنا من كنت وراء ذلك..
سنوات كثيرة مرت علي .. تعرضت من خلالها لشتى أنواع الإبادة والقهر والموت وعلى يد تلك الأمم والإمبراطوريات التي نهضت على أكتافي أنا .. وفي كل مرة كنت أحمل الرمق الأخير من وجودي وألجأ إلى الجبال لأحمي ما تبقى من وجودي وتاريخي .. وعندما كنت أنزل منها أخسر كل ما خبأته وادخرته وبنيته .. هناك مقولة تعبر بصدق عن هويتي وشخصيتي وهي معروفة لدى الشعوب الأخرى وهي: أني أكسب كل المعارك في ساحة القتال وعلى الأرض وعندما أجلس إلى الطاولة أخسر كل انتصاراتي .. فأعود مدحوراً إلى وكري إلى الجبال التي أصبحت هي هويتي وانتمائي ..
ورغم ظهور أمم واختفاء أمم .. بقيت أنا خارج التاريخ .. ولم يدون اسمي على خرائط العالم.. لا أدري لماذا تعاملني الحياة بهذه القسوة ؟ ولماذا تتعامل الشعوب معي بهذه الفوقية والدونية؟
رغم حبي للحياة وللديانات وللشرائع والمعتقدات التي جاءت عليها .. والتي كنت أقتنع وأومن بها أكثر من أصحابها .. ورغم إفناء نفسي في خدمتها .. لا أدري لماذا ؟
ولا أنس الحادثة التاريخية التي تحدثت عنها أمم الأرض قاطبة ودخلت كتب التاريخ من خلال مؤرخيها العظام .. وسأذكر لكم الحادثة علها تضع الأصبع على النزف الذي أعانيه ..
ففي أعقاب الحرب العالمية الثانية اجتمع الحلفاء المنتصرون في الحرب وأخذوا يرسمون الخرائط ويوزعون البلدان والأوطان كقطعة كاتو ..
قام أحد الزعماء ووضع ( قطرميزاً ) على الطاولة وفيه حية سوداء .. صرخ الزعماء .. ما هذا أيها الصديق ؟ نظر الزعيم في عيونهم وابتسم ثم قال: إنه ملاذ الكردي ...!
ومنذ ذلك اليوم .. لم يعد لإسمي مكان على الخرائط وفي كتب التاريخ.
هذه هي حالتي أنا ملاذ الكردي الذي هطلت من الجبال .. بعد آلاف السنين من العزلة والهروب ..
عملت في تلميع الأحذية وجرسوناً في المطاعم الشعبية .. وفي اليانصيب .. ومارست شتى الأعمال الحقيرة ..
وعندما اشتغلت على نفسي قليلاً وطورت مداركي لألحق بركب الحياة والحضارة .. وتعلمت.. درست ودخلت الجامعات والمعاهد .. استخدموني رأس حربة في بنادقهم وسيوفهم .. في الجيش لا أخدم إلا على الجبهات الساخنة .. وفي الوظيفة لا أستلم إلا الأعمال الشاقة .. وعندما أصبحت كاتباً .. كنت بعد كل أمسية أقدمها لا أذهب إلى المطعم لأنتشي بل كانوا يأخذونني إلى أحد الفروع وهناك يفرغون كل حقدهم وجهلهم علي أنا الذي أصبحت متعلما ومثقفاً .. ويتسلون بي ويلعبون على انتمائي وحسبي ونسبي .. حتى أوصلوني لحالة الرعب من كلمة " كردي" التي كانوا يرمونها علي وكأنها مسبة " أنت كردي..؟"
جعلوني أخاف من كل شيء .. حتى من أخي الذي صار يخاف مني بدوره .. جعلونا نخاف من بعضنا في البيت الواحد ..
أنا ملاذ .. " ملاذ الكرد " كما كان يحلو لأبي أن يسميني ..
نصف المثقف، ونصف المتعلم ونصف الكاتب ونصف الاجتماعي ونصف السياسي ونصف... نصف كل شيء .. أخجل من كل شيء .. حتى من أمي وأبي عندما أقول لهما ( أنا أحبكما ) ومن وزوجتي التي أخجل أن أصارحها بمشاعري .. فتعتبرني غبياً .. ومن رئيسي المباشر الذي ينعتني هو الآخر بالغباء .. وهو يعرف تماماً أني على حق .
ولكن للأسف فرغم كل هذا فأنا النصف الفارغ من كل شيء من التاريخ والجغرافيا.. والدين والحضارة والانتماء .. وللآن ما زلت أبحث عن نصفي الممتلئ .
قصص على الهواء هي مسابقة القصة القصيرة التي تجريها بي بي سي مع مجلة "العربي" التي نختار فيها كل اسبوع قصة ً جديدة وكاتبا جديدا.
القصة الفائزة لهذا الأسبوع: "الهوية" " بقلم أحمد خيري من العراق .





