أعتقد أن الأشارة الى المحطات الرئيسية في رحلة ليلى زانا الطويلة و المليئة
ليلى زانا عام 1991 خلال جلسة مراسيم اداء اليمين |
بالعذاب و بقصص الصمود و القيم الأنسانية النبيلة ، يمكن أن تشكل معينا مهما للنساء في مجتمعاتنا الشرقية و بالأخص في المجتمع الكردي في نضالهن من أجل الحرية و كسر قيود العبودية و الأنظمة الأبوية الجائرة .
عندما ولدت ليلى عام ١٩٦١ في قرية (باخجة ) النائية بولاية دياربكر لم يكن يخطر ببال أحد بأن هذه الطفلة الضعيفة و الأمية ستصبح يوما إمرأة شهيرة و سجينة رأي تتحدث عنها منظمات عالمية و مشاهير السياسة و الفكر في العالم الحر . ولم يكن بإمكان سكان القرية أن يتصوروا بأنها يمكن أن تصبح مصدرا للمشاكل بالنسبة للأوساط الحاكمة في تركيا .
لا يخلو أمر رسم بورتريه لأي إنسان لا يزال يشارك بنشاط في الحياة السياسية أو الثقافية أو الأجتماعية من صعوبة ومخاوف ، لأننا لا نستطيع إستباق الأحداث و معرفة مسارها في المستقبل . من هنا فإن حديثنا هنا سيتركز حصرا على تجربة ليلى زانا السابقة و محاولاتها الحالية ولا يدخل تحليل سيناريوهات المستقبل ضمن إطار هذا المقال . يمكن أن يؤدي تشكيلها لحركة جديدة الى جمع كلمة الكرد في تركيا حول حركة وسطية ترفع شعارات مقبولة و تفرض على تركيا اللجوء الى لغة الحوار و العقل . و يمكن أن يؤدي الى تشتيت قوى الكرد فيما إذا لم تتخذ القوى السياسية الكردية من القضية القومية هدفها الأسمى و بقيت متمسكة بنظرتها الحزبية الضيقة . فيما إذا إتخذت الأمور المسار الأمور فإن هذه الحركة تستطيع أن تحقق بعض المكاسب المهمة و بخاصة في هذه المرحلة التي لا تدع فيها تركيا فرصة إلا و تجاوبت مع مطاليب أوروبا .
وإذا تمكنت الحركة الجديدة أن تحرز صفة تمثيل فئة واسعة من المجتمع الكردي في تركيا فإنها ستلعب دورا كبيرا في الحياة السياسية و ستتمكن أن تخرج الحركة الكردية في تركيا من مأزقها الحالي . أما إذا لم تترفع الأحزاب السياسية عن حزازاتها الحزبية و إستمرت على أوضاعها فإن الحركة الجديدة لن تكون سوى رقم جديد يضاف الى دستة الأحزاب القائمة و يمكن أن تصبح في هذه الحالة مصدرا للخلافات و تعميق الأزمة السياسية .
منذ ظهورها على مسرح الأحداث في تركيا تسببت ليلى زانا في سلسلة من المشاكل بالنسبة للأوساط التركية الحاكمة. فقد أصبحت رحلة ليلى زانا مصدرا ملهما للمرأة الكردية في عصرنا هذا و أخذت المئات بل الآلآف من بنات جنسها يحاولن تقليدها و إقتفاء آثارها و الأستفادة منها من أجل بناء مجتمع كردي حر . ومكانة ليلى زانا لا تحددها فقط حقيقة كونها سياسية كردية و سجينة رأي مشهورة و معروفة على الصعيد العالمي ، بل يمكن أن يكون الأهم من هذا و ذاك هو أنها ترى السبب الرئيسي في عذابات المرأة الكردية و تخلف المجتمع الكردي في حالة القهر و الأستبداد السياسي التي تسود البلدان التي تحتل كوردستان . كما أن ليلىزانا و رغم نضالها الشديد ضد المفاهيم و القيم البالية في المجتمع الأقطاعي الكردي تكن إحتراما شديدا لقيم النضال الكردي و تربط حريتها كأمرأة مقهورة بحرية مجتمعها و شعبها من نير الأضطهاد و القمع القروسطي. أعتقد أن هذا الربط العقلاني بين قضايا المرأة في المجتمع الكردي المتخلف مع الأهداف السياسية و الأجتماعية و الفكرية و الأقتصادية للحركة التحررية الكردية أعطى ليلى زانا مكانة متميزة في المجتمع الكردي ، بينما فشلت بنات جنسها المنقطعات عن المج تمع الكردي و الداعيات الى بعض الأفكار الفيمينستية المتطرفة من كسب أية أوساط نسائية كردية الى جانبهن .
عاشت ليلى زانا شأنها في ذلك شأن بنات جنسها في قرى كوردستان النائية محرومة من فرص التطور . يمكن أن يكون الفرق الوحيد بينها و بين الأخريات هو أنها لم تكن تنصاع بسهولة لعادات و مفاهيم القرية . فقد رفضت ، مثلا ، غطاء الرأس رغم أن ذلك كان يعتبر أمرا خطيرا في ذلك الوقت في الريف الكردي . ولكنها بعد أن كبرت و أصبحت مشهورة سياسيا و إجتماعيا لم تتردد في لبس غطاء الرأس لتتمكن من التقرب من نساء كوردستان و تستمع الى همومهن و تطلعاتهن .
لقد زوجت ليلى في الرابعة عشر من عمرها بأحد أقارب و الدها و الذي كان يكبرها بعشرين عاما و هو السياسي الكردي المعروف مهدي زانا .رغم أنها ثارت ضد القرار إلا أنها أجبرت في النهاية على الرضوخ لرغبات الأب و رجال العائلة. لم يكن بإمكان بنات القرى بل و حتى بنات جنسهن في المدن أيضا أن يتمردن على قرارات الرجال . لقد قالت فيما بعد بصدد زواجها هذا بأنها لا تحمل عائلتها أو زوجها وزر هذه العادات السيئة و إنما تحمل النظام الأجتماعي المسؤولية و تناضل بكل إمكانياتها من أجل تغيير تلك المفاهيم و القيم البالية .
كان زوجها مهدي زانا منغمسا في النشاط النقابي و السياسي في تركيا وكان عضوا في قيادة حزب العمل التركي والذي كان أول حزب قانوني تركي يعترف بوجود الشعب الكردي في تركيا و يطالب بالكف عن قمعه و إضطهاده و بضرورة منحه حقوق المواطنة . وأنتخب مهدي زانا عام ١٩٧٧ رئيسا لبلدية دياربكر أكبر مدن كوردستان تركيا . وكانت تلك أول مرة ينتخب فيها وطني كردي لتسنم وظيفة مهمة ضد إرادة و رغبة الأوساط الحاكمة في البلاد .لقد كان زواج مهدي من ليلى عاملا رئيسيا في إنغماسها فيما بعد في النشاط السياسي .
كان الإنقلاب العسكري في ١٢ ايلول ١٩٨٠ سببا في تحطيم حياة ليلى و مهدي و الآلآف من أمثالهم في تركيا . فقد شن الأنقلابيون هجمة شرسة على القوى الديموقراطية و الكردية و اليسارية و كان مهدي من بين الأوائل الذين وقعوا في قبضة الأنقلابيين . كانوا يكنون حقدا عميقا على مهدي و ينتظرون اللحظة التي ينتقمون فيها منه . لقد روى مهدي تجربته المليئة بالتعذيب و الأذلال في السجون التركية في كتاب صدر عام ( ١٩٩٥ ) باللغة الفرنسية و ترجم الى الهولندية ( ١٩٩٧ ) تحت عنوان ( الغرفة رقم ( ٥ ) ، أحد عشر عاما في السجون التركية ). لقد تحدث مهدي زانا في كتابه و بشجاعة نادرة عن قصص التعذيب و الأذلال التي كانت تمارسها سلطات الأمن و السجون في تركيا بحق المعتقلين الكرد و اليساريين و الديموقراطيين الترك .
من خلال كتاب مهدي و سجناء آخرين نرى في تركيا الكمالية ، كما في عراق صدام حسين ، أناسا لم تعد لهم أية صلة بالأنسانية و قيمها ، فهم أشبه بكائنات خرافية لا تعرف طعما للحياة دون ممارسة التعذيب و الأذلال و سفك الدماء . بالنسبة لي كانت قراءة الكتاب لوحدها تعذيبا روحيا كبيرا فكيف بأولئك الذين جرى بحقهم كل تلك الأعمال الشائنة ؟.
كانت ليلى تبلغ في تلك الأيام ١٩ عاما من العمر فقط مع طفل رضيع (رونايي ) و حامل بإبنتها (روكن ) و كانت تنتقل من مدينة الى أخرى مع إنتقال زوجها من سجن الى آخر . فقد جرى نقل مهدي بين سجون دياربكر ، أفيون ، آيدن و آق شهر. و في سنوات الترحال هذه إضطرت لتعلم اللغة التركية التي لم تكن تعرفها حتى ذلك الوقت . كما أنها قررت أن تتعلم القراءة و الكتابة. لم تلجأ ليلى الى الأهل و الأقارب لمساعدتها في مواجهة الحياة القاسية بل قررت أن تعتمد على نفسها و تواجه مصيرها .
كانت أول إمرأة تحصل على الشهادتين الأبتدائية و المتوسطة من خلال الدراسة الخارجية و دون الذهاب الى المدرسة . كما أنها كانت قررت أن تثقف نفسها من خلال القراءة المستمرة . و مع الزمن و القراءة المستمرة بدأت محاولاتها الأولى للكتابة الى الصحف . كما بدأت تتحول شيئا فشيئا الى المتحدثة الرسمية بأسم أهالي السجناء السياسيين . وكانت تشارك في نشاطات منظمة حقوق الأنسان التي فتحت فرعا لها في دياربكر . نتيجة لتلك النشاطات أصبحت معروفة على صعيد الصحافة من خلال أحاديثها الى الصحافة عن أوضاع السجناء السياسيين و عمليات التعذيب التي تمارس بحقهم و معاناة ذويهم الذين كانوا يتعرضون للأهانات و الأذلال أثناء ذهابهم الى مواجهة أبنائهم في السجون التركية و بخاصة سجن دياربكر الذي تحول الى رمز لقسوة النظام التركي .
كانت ليلى تشعر بالرغبة الجارفة للكتابة لكي تعبر عن نفسها ، فبدأت تكتب للصحف المحلية وبعد فترة قصيرة أصبحت مديرة لمكتب جريدة ( Yeni Ulke ) في دياربكر .
لقد حصلت ليلى في إنتخابات عام ١٩٩١ على أكبر عدد من الأصوات يحصل عليها مرشح الى البرلمان التركي ، فقد حصلت على ( ٤٥ ) ألف صوت . وكانت أول أمرأة من كوردستان تركيا تصل الى ذلك البرلمان . كما أنها كانت أول إمرأة تتحدث بالكردية من على منصة البرلمان .أثارت بعملها هذا غضب العنصريين الترك حتى أن سياسيا تركيا مجربا مثل سليمان ديميريل كان يضرب مقعده كأي طفل غاضب و يصرخ ما هذا ، كيف يمكن أن يتحث أحد بغير اللغة التركية في هذا المجلس ؟ . و نتيجة لتلك الثورة التي أثارتها تلك الكلمات طلب رئيس حزب الشعب الأشتراكي أردال إينونو من ليلى التراجع عن موقفها و لكنها رفضت و قررت مع خطيب دجلة الأنسحاب من ذلك الحزب و تشكيل حزب جديد بإسم الحزب الديموقراطي . كما إنسحب بعد ذلك 14 نائبا آخر من حزب إينونو و إنضموا الى الحزب الديموقراطي .
لقد وضعت منظومة الدولة السرية و دوائرها المختلفة الكثير من العراقيل أمام هؤلاء البرلمانيين و كان هؤلاء بدورهم شبابا وطنيون قليلوا التجربة . في بداية آذار ١٩٩٤ جرى رفع الحصانة عن ليلى و رفاقها و من ثم جرى إلقاء القبض على بعضهم و هرب الآخرون الى اوروبا و بذلك إنتهت تجربة البرلمانيين الوطنيين الكرد مع البرلمان التركي . كان الرئيس التركي آنذاك تورغوت أوزال يبحث عن حل للقضية الكردية لأنه أدرك ببراغماتيته بأنه و بدون وضع نهاية لتلك القضية المتأزمة لن تتمكن تركيا من تحقيق أي تطور على الأصعدة الأقتصادية و السياسية و الأجتماعية ، إلا أن القوى اليمينة المتطرفة و الجنرالات قضت على تلك الفرصة من خلال التخلص من أوزال و دخلت تركيا مرحلة مليئة بالصراعات و التوتر و الفساد الأداري لا تزال تدفع ثمنها .
حصلت ليلى زانا على الكثير من الجوائز مثل ، جائزة مؤسسة رافتو للسلام انرويجية ( ١٩٩٤ ) ، جائزة ساخاروف لحرية التعبير للبرلمان الأوربي ( ١٩٩٥ ) ، جائزة فالدوست لحقوق الأنسان الأيطالي ( ١٩٩٦ ) ، جائزة آخن لحقوق الأنسان الألمانية ( ١٩٩٦ ) و في عام ١٩٩٨ أعتبرت مواطنة شرف لمدينة روما . وكان إسمها بين أسماء المرشحين لجائزة نوبل للسلام لمرتين خلال عامي ١٩٩٥ و ١٩٩٨ . لقد رشحت ليلى من قبل مجموعة من أعضاء البرلمان النرويجي و الأوروبي و الكونغرس الأمريكي لنيل تلك الجائزة . إلا أنها لم تمنح هذه الجائزة لحد الآن.
و على الصعيد آخر و بعد أن أدرك محاموا ليلى زانا و رفاقها بأنه لايمكن إحقاق الحق من خلال المنظومة القضائية التركية لجأوا الى محكمة حقوق الأنسان الأوربية في عام ١٩٩٥. وأصدرت هذه المحكمة بعد سنين من التحقيق حكمها في ١٧ تموز ٢٠٠١ القاضي بأن ليلى و رفاقها لم يحاكموا بصورة عادلة لذلك وجبت إعادة محاكمتهم كما غرمت تركيا بمبلغ أربعين ألف دولار .
حاولت الحكومة التركية رفض قرار المحكمة الأوربية و لكنها إضطرت في إطار محاولاتها للحصول على موعد لبدء مفاوضات العضوية الى القبول بها . كانت نتيجة المحاكمة مخيبة للآمال إذ قررت محكمة أمن الدولة في أنقرة إعادة تأكيد قرار المحكمة السابقة أي السجن لمدة ١٥ عاما . وأعتبر القرار ضربة قوية لجهود حكومة حزب العدالة و التنمية حول تطبيق معايير كوبنهاغن. وكان رد فعل البرلمان الأوربي و الكثير من منظمات حقوق الأنسان الدولية غاضبا و قويا ضد قرار المحكمة التركية . وكادت هذه القضية أن تودي بمحاولات تركيا للحصول على توصية إيجابية من مفوضية الأتحاد الأوروبي . حاولت السلطات التركية أن تتدارك الأمور و تنقذ العملية ،فلجأت الى محاولة لإطلاق سراح ليلى زانا لأسباب صحية ، إلا أنها رفضت الأمر و أكدت بأنها لن تخرج دون رفاقها و دون دراسة القضية أمام المحاكم و وفق الأصول القانونية و الأعتراف بالقضية التي إعتقلت من أجلها . وكان موعد إطلاق سراحها هي و خطيب دجلة هو في حزيران ٢٠٠٥ بينما كان من المفروض أن يطلق سراح زميلهما الثالث سليم ساداك في أكتوبر من العام نفسه . أي أنهم قضوا الجزء الأكبر من مدة محكوميتهم في السجن .
حاول أردوغان الخروج من هذا المأزق دون إثارة الجنرالات فقام البرلمان و على عجل بمجموعة من التغييرات القانونية من بينها إلغاء محاكم أمن الدولة و تغيير مجموعة من المواد التي كانت تحد من حرية التعبير و غيرها .وبذلك أصبحت الآفاق مفتوحة أمام إطلاق سراح ليلى زانا و رفاقها من السجن في حزيران ٢٠٠٤ .
وقد أظهرت قضية ليلى زانا حقيقة أنه لا زالت أمام تركيا طريق طويل عليها قطعها قبل أن تصبح جزءا من العالم الأوربي . ولكن و في المقابل كلما إقتربت تركيا من المعايير الأوربية كلما إبتعدت عن تراثها المغولي - التتري الهمجي .
ولعل من بين مشاكل تركيا الرئيسية تأتي مشكلة الدستور التركي الذي جرى تبنيه في ظل حكم الأنقلابيين عام ١٩٨٢ . لا يمكن لتركيا أن تتقرب من المعايير الأوربية دون سن دستور ديموقراطي جديد يحل محل هذا الدستور الذي يصفه البعض بأنه أقرب الى النظام الداخلي لثكنة عسكرية منه الى دستور لدولة ترغب في بناء نظام ديموقراطي و تتطلع الى الأنضمام الى الأتحاد الأوروبي . الغريب أن ٦٨ مادة من مواد هذا الدستور البالغ عددها ١٦٧ مادة أجريت عليها التعديلات ، كما قام البرلمان التركي بإجراء تسع إصلاحات قانونية مع إجراء تعديلين كبيرين على الدستور . مع ذلك كله لم يفقد هذا الدستور جوهره اللاديموقراطي .
بعد تقرير المفوضية الأوربية و توصيات غونتر فيرهويغن من المتوقع أن تقرر القمة الأوربية في ١٧ ديسمبر من هذا العام موعد بدء مفاوضات العضوية مع تركيا . وبموجب الأخبار المتسربة يمكن أن تبدأ هذه المفاوضات في نهاية ٢٠٠٥ أو بداية ٢٠٠٦ . وسوف تسمتر المفاوضات لمدة ١٠ - ١٥ عاما قبل أن يتقرر شئ بخصوص عضوية تركيا . ستكون المفاوضات صعبة و معقدة و يمكن قطعها في أية لحظة يشعر فيها الأتحاد الأوروبي بأن تركيا لا تتجاوب بصورة كاملة مع متطلبات العضوية .
كما أن نتيجة المفاوضات غير معروفة مسبقا ، أي أن بدء المفاوضات لا يعني بأنها ستنتهي حتما بقبول تركيا . وبدأت الدول الأوربية المختلفة تطرح في الآونة الأخيرة شروطا جديدة على تركيا القبول بها قبل أن يتقرر شئ بشأن موعد بدء المفاوضات . ويبدو أن الدول الأوربية تتعامل من منطلق عدم الثقة بالنيات التركية في مجال الأصلاحات و تطبيقاتها على الأرض .
عندما ولدت ليلى عام ١٩٦١ في قرية (باخجة ) النائية بولاية دياربكر لم يكن يخطر ببال أحد بأن هذه الطفلة الضعيفة و الأمية ستصبح يوما إمرأة شهيرة و سجينة رأي تتحدث عنها منظمات عالمية و مشاهير السياسة و الفكر في العالم الحر . ولم يكن بإمكان سكان القرية أن يتصوروا بأنها يمكن أن تصبح مصدرا للمشاكل بالنسبة للأوساط الحاكمة في تركيا .
لا يخلو أمر رسم بورتريه لأي إنسان لا يزال يشارك بنشاط في الحياة السياسية أو الثقافية أو الأجتماعية من صعوبة ومخاوف ، لأننا لا نستطيع إستباق الأحداث و معرفة مسارها في المستقبل . من هنا فإن حديثنا هنا سيتركز حصرا على تجربة ليلى زانا السابقة و محاولاتها الحالية ولا يدخل تحليل سيناريوهات المستقبل ضمن إطار هذا المقال . يمكن أن يؤدي تشكيلها لحركة جديدة الى جمع كلمة الكرد في تركيا حول حركة وسطية ترفع شعارات مقبولة و تفرض على تركيا اللجوء الى لغة الحوار و العقل . و يمكن أن يؤدي الى تشتيت قوى الكرد فيما إذا لم تتخذ القوى السياسية الكردية من القضية القومية هدفها الأسمى و بقيت متمسكة بنظرتها الحزبية الضيقة . فيما إذا إتخذت الأمور المسار الأمور فإن هذه الحركة تستطيع أن تحقق بعض المكاسب المهمة و بخاصة في هذه المرحلة التي لا تدع فيها تركيا فرصة إلا و تجاوبت مع مطاليب أوروبا .
وإذا تمكنت الحركة الجديدة أن تحرز صفة تمثيل فئة واسعة من المجتمع الكردي في تركيا فإنها ستلعب دورا كبيرا في الحياة السياسية و ستتمكن أن تخرج الحركة الكردية في تركيا من مأزقها الحالي . أما إذا لم تترفع الأحزاب السياسية عن حزازاتها الحزبية و إستمرت على أوضاعها فإن الحركة الجديدة لن تكون سوى رقم جديد يضاف الى دستة الأحزاب القائمة و يمكن أن تصبح في هذه الحالة مصدرا للخلافات و تعميق الأزمة السياسية .
منذ ظهورها على مسرح الأحداث في تركيا تسببت ليلى زانا في سلسلة من المشاكل بالنسبة للأوساط التركية الحاكمة. فقد أصبحت رحلة ليلى زانا مصدرا ملهما للمرأة الكردية في عصرنا هذا و أخذت المئات بل الآلآف من بنات جنسها يحاولن تقليدها و إقتفاء آثارها و الأستفادة منها من أجل بناء مجتمع كردي حر . ومكانة ليلى زانا لا تحددها فقط حقيقة كونها سياسية كردية و سجينة رأي مشهورة و معروفة على الصعيد العالمي ، بل يمكن أن يكون الأهم من هذا و ذاك هو أنها ترى السبب الرئيسي في عذابات المرأة الكردية و تخلف المجتمع الكردي في حالة القهر و الأستبداد السياسي التي تسود البلدان التي تحتل كوردستان . كما أن ليلىزانا و رغم نضالها الشديد ضد المفاهيم و القيم البالية في المجتمع الأقطاعي الكردي تكن إحتراما شديدا لقيم النضال الكردي و تربط حريتها كأمرأة مقهورة بحرية مجتمعها و شعبها من نير الأضطهاد و القمع القروسطي. أعتقد أن هذا الربط العقلاني بين قضايا المرأة في المجتمع الكردي المتخلف مع الأهداف السياسية و الأجتماعية و الفكرية و الأقتصادية للحركة التحررية الكردية أعطى ليلى زانا مكانة متميزة في المجتمع الكردي ، بينما فشلت بنات جنسها المنقطعات عن المج تمع الكردي و الداعيات الى بعض الأفكار الفيمينستية المتطرفة من كسب أية أوساط نسائية كردية الى جانبهن .
عاشت ليلى زانا شأنها في ذلك شأن بنات جنسها في قرى كوردستان النائية محرومة من فرص التطور . يمكن أن يكون الفرق الوحيد بينها و بين الأخريات هو أنها لم تكن تنصاع بسهولة لعادات و مفاهيم القرية . فقد رفضت ، مثلا ، غطاء الرأس رغم أن ذلك كان يعتبر أمرا خطيرا في ذلك الوقت في الريف الكردي . ولكنها بعد أن كبرت و أصبحت مشهورة سياسيا و إجتماعيا لم تتردد في لبس غطاء الرأس لتتمكن من التقرب من نساء كوردستان و تستمع الى همومهن و تطلعاتهن .
لقد زوجت ليلى في الرابعة عشر من عمرها بأحد أقارب و الدها و الذي كان يكبرها بعشرين عاما و هو السياسي الكردي المعروف مهدي زانا .رغم أنها ثارت ضد القرار إلا أنها أجبرت في النهاية على الرضوخ لرغبات الأب و رجال العائلة. لم يكن بإمكان بنات القرى بل و حتى بنات جنسهن في المدن أيضا أن يتمردن على قرارات الرجال . لقد قالت فيما بعد بصدد زواجها هذا بأنها لا تحمل عائلتها أو زوجها وزر هذه العادات السيئة و إنما تحمل النظام الأجتماعي المسؤولية و تناضل بكل إمكانياتها من أجل تغيير تلك المفاهيم و القيم البالية .
كان زوجها مهدي زانا منغمسا في النشاط النقابي و السياسي في تركيا وكان عضوا في قيادة حزب العمل التركي والذي كان أول حزب قانوني تركي يعترف بوجود الشعب الكردي في تركيا و يطالب بالكف عن قمعه و إضطهاده و بضرورة منحه حقوق المواطنة . وأنتخب مهدي زانا عام ١٩٧٧ رئيسا لبلدية دياربكر أكبر مدن كوردستان تركيا . وكانت تلك أول مرة ينتخب فيها وطني كردي لتسنم وظيفة مهمة ضد إرادة و رغبة الأوساط الحاكمة في البلاد .لقد كان زواج مهدي من ليلى عاملا رئيسيا في إنغماسها فيما بعد في النشاط السياسي .
كان الإنقلاب العسكري في ١٢ ايلول ١٩٨٠ سببا في تحطيم حياة ليلى و مهدي و الآلآف من أمثالهم في تركيا . فقد شن الأنقلابيون هجمة شرسة على القوى الديموقراطية و الكردية و اليسارية و كان مهدي من بين الأوائل الذين وقعوا في قبضة الأنقلابيين . كانوا يكنون حقدا عميقا على مهدي و ينتظرون اللحظة التي ينتقمون فيها منه . لقد روى مهدي تجربته المليئة بالتعذيب و الأذلال في السجون التركية في كتاب صدر عام ( ١٩٩٥ ) باللغة الفرنسية و ترجم الى الهولندية ( ١٩٩٧ ) تحت عنوان ( الغرفة رقم ( ٥ ) ، أحد عشر عاما في السجون التركية ). لقد تحدث مهدي زانا في كتابه و بشجاعة نادرة عن قصص التعذيب و الأذلال التي كانت تمارسها سلطات الأمن و السجون في تركيا بحق المعتقلين الكرد و اليساريين و الديموقراطيين الترك .
من خلال كتاب مهدي و سجناء آخرين نرى في تركيا الكمالية ، كما في عراق صدام حسين ، أناسا لم تعد لهم أية صلة بالأنسانية و قيمها ، فهم أشبه بكائنات خرافية لا تعرف طعما للحياة دون ممارسة التعذيب و الأذلال و سفك الدماء . بالنسبة لي كانت قراءة الكتاب لوحدها تعذيبا روحيا كبيرا فكيف بأولئك الذين جرى بحقهم كل تلك الأعمال الشائنة ؟.
كانت ليلى تبلغ في تلك الأيام ١٩ عاما من العمر فقط مع طفل رضيع (رونايي ) و حامل بإبنتها (روكن ) و كانت تنتقل من مدينة الى أخرى مع إنتقال زوجها من سجن الى آخر . فقد جرى نقل مهدي بين سجون دياربكر ، أفيون ، آيدن و آق شهر. و في سنوات الترحال هذه إضطرت لتعلم اللغة التركية التي لم تكن تعرفها حتى ذلك الوقت . كما أنها قررت أن تتعلم القراءة و الكتابة. لم تلجأ ليلى الى الأهل و الأقارب لمساعدتها في مواجهة الحياة القاسية بل قررت أن تعتمد على نفسها و تواجه مصيرها .
كانت أول إمرأة تحصل على الشهادتين الأبتدائية و المتوسطة من خلال الدراسة الخارجية و دون الذهاب الى المدرسة . كما أنها كانت قررت أن تثقف نفسها من خلال القراءة المستمرة . و مع الزمن و القراءة المستمرة بدأت محاولاتها الأولى للكتابة الى الصحف . كما بدأت تتحول شيئا فشيئا الى المتحدثة الرسمية بأسم أهالي السجناء السياسيين . وكانت تشارك في نشاطات منظمة حقوق الأنسان التي فتحت فرعا لها في دياربكر . نتيجة لتلك النشاطات أصبحت معروفة على صعيد الصحافة من خلال أحاديثها الى الصحافة عن أوضاع السجناء السياسيين و عمليات التعذيب التي تمارس بحقهم و معاناة ذويهم الذين كانوا يتعرضون للأهانات و الأذلال أثناء ذهابهم الى مواجهة أبنائهم في السجون التركية و بخاصة سجن دياربكر الذي تحول الى رمز لقسوة النظام التركي .
كانت ليلى تشعر بالرغبة الجارفة للكتابة لكي تعبر عن نفسها ، فبدأت تكتب للصحف المحلية وبعد فترة قصيرة أصبحت مديرة لمكتب جريدة ( Yeni Ulke ) في دياربكر .
لقد حصلت ليلى في إنتخابات عام ١٩٩١ على أكبر عدد من الأصوات يحصل عليها مرشح الى البرلمان التركي ، فقد حصلت على ( ٤٥ ) ألف صوت . وكانت أول أمرأة من كوردستان تركيا تصل الى ذلك البرلمان . كما أنها كانت أول إمرأة تتحدث بالكردية من على منصة البرلمان .أثارت بعملها هذا غضب العنصريين الترك حتى أن سياسيا تركيا مجربا مثل سليمان ديميريل كان يضرب مقعده كأي طفل غاضب و يصرخ ما هذا ، كيف يمكن أن يتحث أحد بغير اللغة التركية في هذا المجلس ؟ . و نتيجة لتلك الثورة التي أثارتها تلك الكلمات طلب رئيس حزب الشعب الأشتراكي أردال إينونو من ليلى التراجع عن موقفها و لكنها رفضت و قررت مع خطيب دجلة الأنسحاب من ذلك الحزب و تشكيل حزب جديد بإسم الحزب الديموقراطي . كما إنسحب بعد ذلك 14 نائبا آخر من حزب إينونو و إنضموا الى الحزب الديموقراطي .
لقد وضعت منظومة الدولة السرية و دوائرها المختلفة الكثير من العراقيل أمام هؤلاء البرلمانيين و كان هؤلاء بدورهم شبابا وطنيون قليلوا التجربة . في بداية آذار ١٩٩٤ جرى رفع الحصانة عن ليلى و رفاقها و من ثم جرى إلقاء القبض على بعضهم و هرب الآخرون الى اوروبا و بذلك إنتهت تجربة البرلمانيين الوطنيين الكرد مع البرلمان التركي . كان الرئيس التركي آنذاك تورغوت أوزال يبحث عن حل للقضية الكردية لأنه أدرك ببراغماتيته بأنه و بدون وضع نهاية لتلك القضية المتأزمة لن تتمكن تركيا من تحقيق أي تطور على الأصعدة الأقتصادية و السياسية و الأجتماعية ، إلا أن القوى اليمينة المتطرفة و الجنرالات قضت على تلك الفرصة من خلال التخلص من أوزال و دخلت تركيا مرحلة مليئة بالصراعات و التوتر و الفساد الأداري لا تزال تدفع ثمنها .
حصلت ليلى زانا على الكثير من الجوائز مثل ، جائزة مؤسسة رافتو للسلام انرويجية ( ١٩٩٤ ) ، جائزة ساخاروف لحرية التعبير للبرلمان الأوربي ( ١٩٩٥ ) ، جائزة فالدوست لحقوق الأنسان الأيطالي ( ١٩٩٦ ) ، جائزة آخن لحقوق الأنسان الألمانية ( ١٩٩٦ ) و في عام ١٩٩٨ أعتبرت مواطنة شرف لمدينة روما . وكان إسمها بين أسماء المرشحين لجائزة نوبل للسلام لمرتين خلال عامي ١٩٩٥ و ١٩٩٨ . لقد رشحت ليلى من قبل مجموعة من أعضاء البرلمان النرويجي و الأوروبي و الكونغرس الأمريكي لنيل تلك الجائزة . إلا أنها لم تمنح هذه الجائزة لحد الآن.
و على الصعيد آخر و بعد أن أدرك محاموا ليلى زانا و رفاقها بأنه لايمكن إحقاق الحق من خلال المنظومة القضائية التركية لجأوا الى محكمة حقوق الأنسان الأوربية في عام ١٩٩٥. وأصدرت هذه المحكمة بعد سنين من التحقيق حكمها في ١٧ تموز ٢٠٠١ القاضي بأن ليلى و رفاقها لم يحاكموا بصورة عادلة لذلك وجبت إعادة محاكمتهم كما غرمت تركيا بمبلغ أربعين ألف دولار .
حاولت الحكومة التركية رفض قرار المحكمة الأوربية و لكنها إضطرت في إطار محاولاتها للحصول على موعد لبدء مفاوضات العضوية الى القبول بها . كانت نتيجة المحاكمة مخيبة للآمال إذ قررت محكمة أمن الدولة في أنقرة إعادة تأكيد قرار المحكمة السابقة أي السجن لمدة ١٥ عاما . وأعتبر القرار ضربة قوية لجهود حكومة حزب العدالة و التنمية حول تطبيق معايير كوبنهاغن. وكان رد فعل البرلمان الأوربي و الكثير من منظمات حقوق الأنسان الدولية غاضبا و قويا ضد قرار المحكمة التركية . وكادت هذه القضية أن تودي بمحاولات تركيا للحصول على توصية إيجابية من مفوضية الأتحاد الأوروبي . حاولت السلطات التركية أن تتدارك الأمور و تنقذ العملية ،فلجأت الى محاولة لإطلاق سراح ليلى زانا لأسباب صحية ، إلا أنها رفضت الأمر و أكدت بأنها لن تخرج دون رفاقها و دون دراسة القضية أمام المحاكم و وفق الأصول القانونية و الأعتراف بالقضية التي إعتقلت من أجلها . وكان موعد إطلاق سراحها هي و خطيب دجلة هو في حزيران ٢٠٠٥ بينما كان من المفروض أن يطلق سراح زميلهما الثالث سليم ساداك في أكتوبر من العام نفسه . أي أنهم قضوا الجزء الأكبر من مدة محكوميتهم في السجن .
حاول أردوغان الخروج من هذا المأزق دون إثارة الجنرالات فقام البرلمان و على عجل بمجموعة من التغييرات القانونية من بينها إلغاء محاكم أمن الدولة و تغيير مجموعة من المواد التي كانت تحد من حرية التعبير و غيرها .وبذلك أصبحت الآفاق مفتوحة أمام إطلاق سراح ليلى زانا و رفاقها من السجن في حزيران ٢٠٠٤ .
وقد أظهرت قضية ليلى زانا حقيقة أنه لا زالت أمام تركيا طريق طويل عليها قطعها قبل أن تصبح جزءا من العالم الأوربي . ولكن و في المقابل كلما إقتربت تركيا من المعايير الأوربية كلما إبتعدت عن تراثها المغولي - التتري الهمجي .
ولعل من بين مشاكل تركيا الرئيسية تأتي مشكلة الدستور التركي الذي جرى تبنيه في ظل حكم الأنقلابيين عام ١٩٨٢ . لا يمكن لتركيا أن تتقرب من المعايير الأوربية دون سن دستور ديموقراطي جديد يحل محل هذا الدستور الذي يصفه البعض بأنه أقرب الى النظام الداخلي لثكنة عسكرية منه الى دستور لدولة ترغب في بناء نظام ديموقراطي و تتطلع الى الأنضمام الى الأتحاد الأوروبي . الغريب أن ٦٨ مادة من مواد هذا الدستور البالغ عددها ١٦٧ مادة أجريت عليها التعديلات ، كما قام البرلمان التركي بإجراء تسع إصلاحات قانونية مع إجراء تعديلين كبيرين على الدستور . مع ذلك كله لم يفقد هذا الدستور جوهره اللاديموقراطي .
بعد تقرير المفوضية الأوربية و توصيات غونتر فيرهويغن من المتوقع أن تقرر القمة الأوربية في ١٧ ديسمبر من هذا العام موعد بدء مفاوضات العضوية مع تركيا . وبموجب الأخبار المتسربة يمكن أن تبدأ هذه المفاوضات في نهاية ٢٠٠٥ أو بداية ٢٠٠٦ . وسوف تسمتر المفاوضات لمدة ١٠ - ١٥ عاما قبل أن يتقرر شئ بخصوص عضوية تركيا . ستكون المفاوضات صعبة و معقدة و يمكن قطعها في أية لحظة يشعر فيها الأتحاد الأوروبي بأن تركيا لا تتجاوب بصورة كاملة مع متطلبات العضوية .
كما أن نتيجة المفاوضات غير معروفة مسبقا ، أي أن بدء المفاوضات لا يعني بأنها ستنتهي حتما بقبول تركيا . وبدأت الدول الأوربية المختلفة تطرح في الآونة الأخيرة شروطا جديدة على تركيا القبول بها قبل أن يتقرر شئ بشأن موعد بدء المفاوضات . ويبدو أن الدول الأوربية تتعامل من منطلق عدم الثقة بالنيات التركية في مجال الأصلاحات و تطبيقاتها على الأرض .
تم النشر في 16,56 05|06|2012
المصدر نعتذر لم يعرف من الذي كتب تلك الأسطر
إقرأ المزيد عن تاريخ الكورد