
كاردوخ ميردرويش :
ماد (ميديا) هي تلك الأراضي التي كانت تمتد حدودها من الشمال نهر أراس وقمم جبال البُرْز جنوب بحر قزوين، ومن الشرق السهول المالحة لسهول كوير، ومن الجنوب والغرب متصلة بسلسلة جبال
زاغروس. وكان أكثر أراضي مادي وأحسنها جبلياً، لامتداد فروع زاغرُس شرقاً إلى الصحراء، وسلسلة جبال على شطوط بحر الخَزَر تسمّى البُرز (أو البُرج) تحيط بالبحر على القرب منه جنوباً وغرباً، وتتشعّب جنوباً، … وفروع جبل زاغرُس تمتد شرقاً، … وبينها أودية مخصبة معتدلة الهواء، وهنالك أكثر السكان… وانقسمت مادي قديماً إلى: مادي أَتْرُوبَتِينة، وهي القسم الشمالي. ومادي الكبرى وهي القسم الجنوبي، وتسمّى اليوم العراقَ العجمي. و المنطقة التي حلّ فيها الميديون (ميديا) وأطرافها (أورارتو وميتّانيا)، كانت تحمل، في الألف الأول قبل الميلاد، اسم غوتيوم (گوتيوم)، نسبة إلى شعب غوتي (گوتي/جوتي/جودي)، وبالنسبة إلى أغلبية الباحثين فالقصد من معنى (غوتيوم) هو (ميديا). ان ما جاء في المصادر التاريخية بشأن ميديا وفارس أن الميديين استقروا في المناطق الكوردية التي تقع الآن في شمال غربي إيران وشمالي العراق، وهي المناطق التي سمّيت بعدئذ (كوردستان)، في حين استقر الفرس في جنوب غربي إيران الحالية، وظلت معروفة طوال القرون باسم (فارس). لقد كانت الإمبراطورية الآشورية قوة عظمى مهيمنة على جميع غربي آسيا ومصر، وكانت تتصف بالقسوة والوحشية البالغة في التعامل مع الشعوب الخاضعة لها بدون اية رحمة. فقام الزعيم الميدي دياكو بتوحيد القبائل الميدية، وقادها ضد الدولة الآشورية في إطار مشروع تحرري، وتابع ابنه فراورت (خشتريت) تنفيذ مشروع التحرير، وأوصلها حفيده كَيْخُسْرو (كياكسار) إلى القمة، وأهم ما أضافه كيخسرو إلى ذلك المشروع أنه لم يجعله مقتصراً على الميديين، وإنما جعله مشروعاً تحررياً لجميع شعوب غربي آسيا، فبسط نفوذه على فارس جنوباً، وعلى أرمينيا وميتّانيا شمالاً، وأقام تحالفاً مع البابليين (الكلدان) غرباً، وكانت النتيجة إسقاط الإمبراطورية الآشورية، وخلاص جميع شعوب المنطقة من عذابات وويلات استمرت ثلاثة قرون (912 – 612 ق.م). وخاض كيخسرو حربا ضد دولة ليديا (حليفة دولة آشور سابقاً)، وانتهت الحرب بعقد معاهدة سلام وصداقة بين ميديا وليديا، تكلّلت بزواج ولي العهد الميدي أستياگ من ابنة الملك الليدي إلياتِّس،وعمالسلام على غربي آسيا، ونشطت التجارة على امتداد شبكتي طريق الحرير وطريق البخور في المنطقة، ولم يعكّر صفوها سوى بعض المناوشات التي كانت تندلع بين حين وآخر بين دولة بابل ودولة مصر، للسيطرة جنوبي بلاد الشام، وفلسطين (أرض كنعان) على وجه التحديد. توفي الملك الميدي كيخسرو حوالي سنة (584 أو 585 ق.م)، وخلفه على الحكم ابنه أستياگ وورث أستياگ دولة قوية، واسعة الأرجاء، وافرة الخيرات، تسيطر على طريق الحرير الرئيسي المار بالعاصمة إگبتانا (هَمَذان) وبالمدينة الشمالية الكبرى رِغَه (الطريق، وسمّيت الرَّي، وهي تقع قرب طهران)، وتصبّ في خزائنها واردات الإمبراطورية. لقد كان هناك نوعاً من الاتحاد الفيدرالي كان قائماً بين ميديا وفارس؛ إذ كان لإقليم فارس ملكها؛ وهو من الأسرة الملكية الهاخمينشية نسبة إلى مؤسسها هاخمينش، ومنه جاء لقب: أخميني، وكانت له سلطاته الخاصة في إقليمه، ويبدو أنه كان ذا مكانة رفيعة حتى إن الملك الأخميني قَمْبيز الأول كان قد تزوّج ماندانا ابنة الملك الميدي أستياگ. لقد استبد استياغ بالسلطة وخرج عن تقاليد اسلافه في نظام الحكم الفيدرالي اللامركزي فدولة ميديا كانت تتألف في الأصل من اتحاد أقوام ميديا وكان استياگ يتعامل بدون رحمة مع كبار الرجال من النبلاء والمتنفّذين والمستشارين الميديين أي الرجال الميديين من الصنف الأول، والذين كانوا من بقايا الملوك . فظهرت التناقضات الداخلية في قمة هرم السلطة الميدية، وحصل شرخ عميق بين زعماء اتحاد أقوام ميديا، وبرز الوصولية، وإسناد المناصب العليا إلى رجال غير أَكْفاء الأمر الذي سهّل اختراق القيادة الميدية من قبل الناقمين عليها والمتربصين بها. ان الزعيم الأخميني الذي قاد الثورة ضد الملك الميدي أستياگ هو كورش Kursh الثاني ابن قمبيز الأول، أي حفيد أستياگ من ابنته ماندانا ونشا وترعرع في ظل الثقافة الميدية واصبح من القادة البارزين وخبيرا عسكريا وسياسيا وكان جده استياغ يكلفه بالمهام العسكرية ويثق به ولا يعلم انه يخونه ويتامر عليه. لقد استغل كورش الفارسي مكانته الرفيعة عند جده الملك الميدي استياغ واقام علاقات سرية مع بعض كبار رجال البلاط الميدي وقائد الجيش الميدي (هارباك)الخائن الخسيس والمنافق اللذي كان أشد الناقمين على أستياگ، ومن أكثر المتظاهرين بالإخلاص للملك في الجهر، ومن أشد الناشطين للتآمر عليه والخلاص منه في الخفاء، وقد كتب إلى كورش في إحدى رسائله السرية: هيّئ الفرس للثورة، وامضِ لملاقاة الميديين، ولا يضيرنّك إن كنتُ أنا أو أحدُ المقدَّمين منهم على رأس الجيش الذي سيرسله الملك لملاقاتك، فالفوز لك في كل الأحوال؛ لأن أشرف الميديين سيكونون أوّلَ من يهجرونه للانضمام إليك في جهدك للإطاحة به، ونحن جميعاً جاهزون للعمل، فافعل ما أنصحك به، وبادر العمل سريعاً. لقد كشف الملك أستياگ متاخرا مع الاسف خفايا ما كان يدور بين كورش والمتآمرين عليه بقيادة هارپاگ، فأراد وأد الثورة في مهدها، واستدعى كورش إلى إگبتانا، لكن كورش بادر إلى إعلان الثورة، والزحف نحو ميديا، فحشد أستياگ جيشه لملاقاة الجيش الفارسي، ونصب هارپاگ قائداً لذلك الجيش، وكان من الطبيعي والحال هذه أن تكون الهزيمة نصيب الجيش الميدي. وانضم الخائن هارباگ الذي كان قائداً عاماً للجيش الميدي مع النبلاء وقادة قوات الجيش إلى كورش، ودخلوا في صفوف جيشه. وعندما وصلت أنباء الهزيمة إلى أستياگ أصر على الدفاع عن عرشه، فبادر إلى إعدام بعض الخونة من الموغ، وسلّح سكان العاصمة إگبتانا، وعبّأهم للدفاع عن مدينتهم، واقتحم كورش العاصمة، وسقط المقاتلون الميديون المخلصون لملكهم صرعى، ووقع أستياگ في الأسر سنة (550 ق.م) وتبين الكتابات والمصادرالتاريخية أن الميديين قاوموا بقوة شديدة في المعارك مع الفرس، ولولا خيانة كبار رجال ميديا، داخل الدولة الميدية، لما استطاع الفرس السيطرة على الحكم في الإمبراطورية الميدية . ولم يكتف هارپاگ بخيانة أستياگ، ومساعدة كورش على احتلال عاصمة الإمبراطورية، وإنما زار أستياگ في معتقله ساخراً ومتشفّياً، وأكد له أن هو الذي دبّر أمر الثورة عليه، فما كان من أستياگ إلا أن رماه بنظرة احتقار قائلاً له: ” إذنْ، فأنت لست الأشدّ لؤماً بين البشر وحسب، بل أكثر الرجال غباء؛ فإذا كان هذا من تدبيرك حقاً كان الأجدر أن تكون أنت الملك،… وإذا كان لا بد لك من أن تسلّم العرش لآخر غيرك، كان الأجدر بك أن تقدّم هذه الجائزة لميدي، بدلاً من فارسي، لكن الحال الآن هي أن الميديين الأبرياء من كل جُنحة غدوا عبيداً بعدما كانوا أسياداً، وأصبح الفرس سادة عليهم، بعد ما كانوا عبيداً عندهم”. ان كلام الملك الميدي استياغ الموجه للخائن هارباك له معاني عميقة ودلالات سياسية واضحة فإن سقوط امبراطورية ميديا، وسيطرة الأخمين الفرس على مقاليد الأمور في غربي آسيا، كان نقطة تحوّل كبرى في مصير البيت الغرب آسيوي عامة، وفي مصير الشعب الكوردي بوجه خاص ونعاني من اثاره وتبعاته حتى يومنا هذا.
المصادر: 1 هيرودوت 2 دياكانوف 3 ول ديورانت 4 هارفي بورتر
vedio