محمد نمر المدني :
كنا هذا اليوم نأمل الحصول على جرة الغاز في دمشق. كنا أكثر من مائتي شخص. بيننا أطفال ونساء وعجزة. وشباب مفتولي العضلات وكاشفيها.
كلهم يريدون الوقود. ويخشون أن يفتقدونه كلياً. يقول شاب حشري: السيارة لن تصل قبل ساعتين. ويقول آخر بأن السيارة توزع في شارع الحمّام. فتحمل الجرار فوق الأكتاف وتذهب عشائر ثم تعود نادمة.
يخبرني ابني الصغير بأنه عطش وتعب، ويشير إلى إبريق ماء أهلكه الدهر وتلون بمائة لون أكثرها الأسود. فأمنعه من الشرب، وأخفي عنه بأني أنا أكثر منه عطشاً وتعباً. وفي الجهة المقابلة لنا من الشارع شاب مفتول العضلات يحكي قصصه المدرسية ويسخر من أستاذ كان يعلمه. فيضحك كثير من الذين يصغون إليه بشغف.
تعبر سيارات الأمن ببطء. لا أستطيع أن أعرف عددها. ولا أن أصفها. فقد رأيت حديداً لا أقدر على وصفه سوى أنه كان يتجه نحوي. فأرخيت بصري نحو الأسفل ولم أعد أرى شيئاً في الوجود. فقد صمتّ كما صمت الجميع. قد تكون هذه المرة الأولى في التاريخ التي يصمت فيها هذا الشارع كلياً. جمع غفير لم يعد موجوداً. كأننا في وادي سحيق. كأننا في كهف عميق. كأننا غير موجودين. كل القصص وحكايا البطولات توقفت. كل العضلات التي كانت مفتولة ارتخت وانعدمت. كل الرؤوس انخفضت. حتى جرار الغاز صمتت. وأعتقد أن كل الموجودين هنا لم يروا شيئاً مثلي في تلك اللحظات.
بالنسبة لي فأنا الآن لست هنا. أنا لا شيء. أنا لاهوية أيضاً. فلا تسألوني عن هويتي. أنا أحاول أن اخفي نفسي وجسدي فأظن بأن من ينظر نحوي لن يرى شيئاً. لكن ملابسي تسطع وقد تدلّ عليّ، فقررت أن أذوب بداخلها, أتمنى أن تذوب ملابسي مثلي. أنا لست هنا. وكل الذين كانوا ينتظرون وصول الغاز اختفوا. فلم أعد أرى أحداً منهم هنا. أخشى في هذه اللحظات أن أفكر فيكتشفون تفكيري فيطلبون الهوية. فأوقف التفكير.
ثم تمضي سيارة الأمن مبتعدة عن شارع الغاز هذا فيتنفس البعض، ومازال الكثيرين يخشون أن يلتقطوا أنفاساً عميقة. أنظر نحو البعيد بخوف شديد. فأرى خيالات سيارات وأنابيب حديدية تضيع في نهاية الشارع. أشعر بأن ابني الطفل يلتصق فيأخذ نفساً عميقاً ويطلب مني أن أسمح له بشرب الماء من الإبريق الملون ببقع سوداء. فأمنعه أيضاً. لم أشعر بعد أن هناك سبب يجعله يطلب الماء بإلحاح. فمشكلتنا أننا نظل نعتقد بأن الأطفال يجهلون أشياء وأحداث نعتبرها مقتصرة علينا نحن الكبار. فيلتصق (إباء) بي أكثر ويسألني فيقول: هل هؤلاء هم الذين نراهم في التلفزيون وفي المظاهرات؟.
فأسأله عنهم, فيجيبني واصفاً المشهد بدقة. لقد كان أجرأ مني فعلاً. فاستطاع أن يحدّق بتلك السيارات. كان موجوداً حينما كنت أنا أعلن عن عزيمتي بالفرار من الوجود.
تأتي الشاحنة المنتظرة. فتعلوا الأصوات وأظن بشِعري أنها وصلت إلى المريخ. فترتفع جرار الغاز فوق الرؤوس. وتقذف جرار أخرى بعيداً وتتدحرج أخرى. ويصرخ الأطفال هاربين. ويحمل أحد الأبطال أنبوباً معدنياً فيوصل صرخاته حتى القمر، ويشتم ويسب ويلعن ويقول عبارات كنا في طفولتنا نسميها (كلمات رزيلة). ويهجم العشرات من الرجال على عشرات من قوم آخرين. ثم يبتعدون عن شاحنة الغاز فينشغلون بعمل بطولي أهم عندهم من الحصول على جرار الغاز. وبعد ثوان ترتفع أصوات أكثر حدة. وأعلى وأقوى. إنها مشاجرات ثانية. ثم ثالثة وعاشرة. ويتعلق أصحاب العضلات وبعض المسلولين أيضاً على شبك الشاحنة المعدني. وتطرق الجرار في الأشباك. الآن أعرف سبب جعل هذه الشاحنة كزنزانة في غواتينامو. فهي مغطاة بشبك معدني متين من كل الجهات. وبداخلها عشرة من المتخصصين باحتكار الغاز واستغلاله. وهذه المرة أهرب ممسكاً بطفلي وبالعربة وبجرة الغاز. وتصرخ النساء ويضرب بعض الرجال بجرار الغاز. ويجرح آخرين بسكاكين ويسيل الدم هنا وهناك. وتظهر بطولات خارقة. وتعبر سيارة بيضاء قال أحد الناس بأن ثمنها يبلغ تسعة ملايين ليرة. فيشير الرجل بيده فقط. وتحمل في سيارته ثلاث جرار. يدفع ثمنها ثلاثة أضعاف.
لكن سيارة الأمن تأتي الآن ويعمّ الصمت بشكل مفاجئ، وتتقوف المشاجرات مؤقتاً. فيصبح جميع الأبطال المتخاصمين أصدقاء. فيترك طفلي يدي ويذهب بعيداً فيشرب من إبريق الماء ذو البقع الزيتية السوداء.
لم أستطع هذه المرة أيضاً أن أنظر إلى سيارة أو سيارات الأمن. فأحاول أن أخفي ذاتي ونفسي وشخصي وحياتي واسمي وهذا ما فعله كل المحتشدين أيضاً فحتى شاحنة الغاز حاولت أن تخفي نفسها.
لكن سيارة الأمن هي في الحقيقة سيارة كغيرها. وقد تعذر مرورها بسهولة بسبب هذه الحشود الجائعة. فينطلق صوت ساخر من إحدى السيارات يأمر الناس بفتح الطريق، ويضحك الرجل ساخراً من هذا المسرح الهزلي الذي يجوع للغاز. فتنطلق الضحكات من كل مكان إرضاء له. إنهم يضحكون لأول مرة في هذا الحفل الغازي.
عندما أصبح المشهد اجتماعياً أمكنني أن أنظر إلى السيارة الأولى فأرى رجل الأمن يضحك بملئ قلبه. فأقول في نفسي: أليست وظيفته ونوع عمله يتطلب منه ألا يضحك؟. لقد زاد عدد المحتشدين هنا عن ثلاث مائة شخص. والعشرات منهم يتعلقون مثل القرود فوق كابين السيارة. إنه منظر مضحك فلعلاً لشخص يمكنه أن يحصل بكلمة واحدة على جرة غاز أو عشرة أو مائة. إنه منظر مضحك للغاية بالنسبة لشخص لايعرف معنى أن تعيش عائلة بدون وقود طوال أسابيع أو أشهر. لشخص لم يفتقد بيته يوماً لأية مادة يريدها هو أو أحد أفراد أسرته.
أعود في الطريق ممسكاً بالعربة الصدئة وفوقها جرة غاز. فأستغرب كثيراً أن الجميع يسألوني باستغراب ولوم وسخرية عن سبب عدم تمكني من الحصول على جرة الغاز.
\\\ محمد نمر المدني -دمشق - دمر البلد – 30 أيار 2012 \\\\\
تم النشر في 17,00 31|05|2012